لحقيقة الوقوف على التعصب والتطرف الذى ظهر جليا فى القضية الليبية وجرها الى حرب أهلية حمقاء ، بعدما انتشرت وسيطرت على الشارع جماعات ( الاسلام المتطرف ) والذى شابها التطرف والتكفير للدولة والحاكم ، ولمن يخرج من دائرة هذه الافكار الضيقة والتى ذكرناها فى العديد من فصول هذا الكتاب . لذا فتم أختطاف الدول بواسطة هذه المجموعات التى بدأت فى مواجهة الدولة علنا ودون أنذار سابق ، بعدما سيطرت بأفكارها المتعصبة على الشارع العام ، الذى بدأ يروق الى هذه الافكار التى ساعد عليها العديد من العوامل التى تساعد فى تأجيج الصراعات العرقية والدينية . وتعتبر ليبيا أحدى الدول العربية التى لايوجد بها عرقيات تشاركهم ديانات أخرى، بل الجميع يعتنق مذهب اسلامى واحد ، وشعب يطلق علية ( شعب المليون حافظ للقرآن ) كما يظهر للمارة على الطرق فى ليبيا ( مآذن المساجد بكثافة فى كل مكان ) . ليس هذا فحسب بل هناك تعدد قبلى أستطاع القذافى أن يسيطر عليه من خلال الالتحام المباشر لشيوخ القبائل ومساعدة ابنائها. هذا لايعنى صواب القذافى أم خطأه فى سيطرة 3 قبائل تحديدا فى أمتلاك زمام الدولة ، وسيطرتهم على الحكم واستتباب الامن . فمما لاشك فيه أن هناك اخطأ كثيرة وقع فيها القذافى ، رغم سيطرته على مقاليد الحكم لفترة طويلة والتى أكسبته خبرة فائقة فى السيطرة بين اللين والشدة كأبجديات اى حكم . وبعيدا عن الرؤية التى تحبذ أن دخول أولاد القذافى اروقة الحكم كان من أسباب سرعة زوال حكمه ، خصوصا أن المتغيرات السريعة على أرض الواقع والدور الذى لعبته التكنولوجيا قلصت الى حد ما كبير نفوذ القذافى فى السيطرة نظرا للمتغيرات التاريخية والجغرافية والاقتصادية ، فى ظل تواجد قوى للتيارات الجديدة الجارفة التى تهيمن على دول الجوار الليبى فى كل من تونس وليبيا ومصر والجزائر والجوار الافريقى . بالأضافة الى حالات التمرد الغير معلن الذى تضمره النفوس من الشعب الليبى لنظام معمر القذافى الذى وجد نفسه محاصرا فى فترة السبيعنات، بعد خروج كلا من المصريين والتونسيين من ليبيا كعمالة على الارض .وحتى عندما فتحت ليبيا ابوابها مرة أخرى لدخول رعايا دول الجوار كان هناك تململ شعبى من نظام معمر القذافى ، الذى ساهم فى فرض حصار على ليبيا ابان عداءه مع امريكا فى حقبة الرئيس الامريكى ريجان وتخاصم أوروبى يعلن الكراهية لهذا النظام . وكانت دولة ( مالطا ) هى أحد المنافذ القريبة والتى كانت بها الاستثمارات الليبية قوية منفذا للشعب الليبى للتنفس خارج ( الجماهيرية ) ، وهى ايضا كانت المكان الاوحد لابناء الطبقات الراقية من الشعب الليبى لتعلم اللغة الانجليزية للعديد من بينهم ابناء ( معمر القذافى ) . فحالات التململ الشعبى لم تكن فقط فى مصراتة العدو اللدود لنظام القذافى بل تعدى الأمر الى عديد من المدن الليبية ، خصوصا أن كثيرا من أبناء هذه المدن لم تجف آثار التعذيب من جسدة والتى مارسها عليه النظام بعد ثورة الفاتح ، أو ممن القى القبض عليهم واتهامهم بانهم أعداء النظام أو أعداء الثورة بعد ذلك ، وكل هذه الالفاظ التى يطلقها زبانية لاتقوم على اسس عدلية فى ظل بيروقراطيات ضبابية يلعب فيها الانتقام الشخصى أو العرقى أو القبلى الدور الكبير ، رغم أن النظام الليبى ضمهم اليه وأسند اليهم العديد من الوظائف الهامة لكن هذا لم يقلل من المساحة التى اتسعت رقعتها للزبانية ، التى أعطت لنفسها الحق فى تغييب دور العقل الذى يفضى الى العدل واطلاق العنان للغة التسامح .
المؤتمرات الشعبية كان بها جزء من النفاق العلنى بغرض التقرب من القائد . السلطة لها بريق . هذا كان لايروق الى العديد من أهل الخبرة الذين يرون ليبيا يجب أن لايكون بها هذا النفاق . فعلى سبيل المثال كان ( محمد خليل ) من أهل مصراتة والذى تربى معه معمر القذافى يقصى العديد ممن تم أختيارهم لقيادة الوزارات لمجرد شىء فى نفسه أو ربما بأيعاز من أحد أو من الجائز الهيمنة على السلطة والظهور للرأى العام بأننى ساعد القائد القذافى الايمن . واتذكر شخصيا أننى كنت مع أحد الوزراء فى الطريق مابين سرت الى مصراتة بعد مؤتمر يسمى الشعب العام ، وقال لى بالحرف الواحد " انهم لايرغبون فى أهل الخبرة ، بل أهل النفاق . لذا تجدنا فى صراع تجمعنا قاعة للهتاف دون أنجاز ملموس على الارض يظهر مؤشرات التحول التى من الممكن تكون الرؤية الجادة التى يطمح القذافى الوصول اليها ، وضاعت بسبب تفشى الخوف ممن ينافق من أجل السلطة . وهذا ما ذكرناه سابقا وحقيقة لمتطلبات اى مرحلة من ان "الأفتقار للقوة فى مجتمع مزدهر لايقدم الاشباع المادى والمعنوى للمواطنين سيكونه مصيره الانهيار" .
فأذا اتفقنا جدلا أن هناك حالة من التململ تطول قاعدة شعبية لاترتضى طريقة الحكم والعيش فى ظل نظام جماهيرى شعبوى أتى به القذافى ، لم تكتمل فكرته بخطة واضحة المعالم ، فربما بالفعل كانت نواة جديدة لمجتمع تتساوى فيه الطبقات حسب الايدلوجيات السياسية كفكرة منقوصة غير كاملة ولم تتضح معالمها . فهى أقرب الى الديمقراطية الكلاسيكية فى ظل تعقيدات الحياة الاجتماعية
Societal Dynamic – Exploring Macrosociology . Marvin E Olsen page 299
كان هناك فريقا آخر لهم بالمرصاد يحمل فكرا متعصبا دعنا نقول ( الاسلام السياسى ) أن جاز التعبير بجوار المتململين والغاضبين الكارهين سرا لنظام القذافى .
فجماعات الاسلام السياسى جزء من افكارها راسخة كشجرة لم تقتلع جذورها تحدث عنها ( الماوردى ) فى كتابه ( الاحكام السلطانية ) الذى نذكر جزء منها فى سياق حديثنا عن هذه الجماعات المتشددة التى شرع لها الفقهاء انها تقوم بمهمات الخلافة ، اى هى علاقة " سلطات تتوزع بين المجتمع وهيئة السلطان الحاكمة ، وتتمثل الى جانب السلطان بشتى الولايات التى يتوزعها نظام ( الحسبة ) الذى يتبناه الدواعش فى القضاء والتعليم والمساجد والاوقاف . لكن على مايبدو أن داعش نصبت نفسها سلطانا وفقيها . وهذا مايراه الماوردى واجازه فقهاء انها " أمارة الاستيلاء" حيث أنها تقوم بمهمات الخلافة التى تواجدت فى الدولة الاموية حتى العثمانية المتأخرة . لم تكن داعش وحدها فى ليبيا ، فهناك الجماعات الاخرى المتناحرة مع الدولة وفيما بينها . يجمعها رؤى متطرفة اسلامية وطريقا للتناحرللسيطرة كميليشيات. ربما يجمعها الهدف الواحد وهو القضاء على الحاكم والدولة الحديثة من خلال التكفير والخروج على الحاكم ، ثم تتصارع فيما بينها فيما بعد على المغانم وليس سلطة ، ففى ظل الفوضى العارمة لن يكون هناك سلطة .
خصوصا وأن العديد من هذه الفرق تستقوى بالدين ، فى حين أن الدولة لديها الحد الفاصل بين الدولة والدين . ولانريد استدعاء الجانب والاطراف الخارجية الآن لحين حصر الجماعات الاسلامية ودورها على التراب الليبى المدعومة بالمال الخارجى لزعزعة الاستقرار الداخلى .
فمدينة سرت هى أحدى المدن التى شهدت الصراع التاريخى بين نظام معمر القذافى وأعدائه واللحظات الحاسمة بين حاكم مؤمن بقدرتة على التشبث بالبقاء، وسلطته التى يمكن أعادتها وبسط سيطرتة مرة أخرى على البلاد بايجاد الحل السياسى المفقود، والوصول الى صيغة مشتركة تحقق التسامح والوفاق وتنهى العداء والفراق على هذه الارض، فى ظل فوضى عارمة نيران الناتو فى السماء والجماعات المتمردة ونيرانها على الارض ، على أمل حل اصبح مستحيلا . مخازن سلاح خارج السيطرة اسلحة مختلفة ثقيلة وخفيفة يتلقفها الناس لتكون حرب الكل ضد الكل ، وكتائب تدافع عن النظام يقودها ابناء العقيد القذافى ومن يواليهم لأفتقاد الدولة الى الجيش المنظم الذى يؤمن ويرى ان ولائه للدولة ويمكن قمع أى تمرد . رغم أن هذه الفكرة لم تكن مجدية فى جيش صدام حسين أبان حربه مع امريكا ، لكن فى ليبيا الأمر ربما يختلف كثيرا عن التركيبة الأجتماعية والعرقية فى العراق . ونحن فى هذا الكتاب لسنا بصدد البحث فى هذه النقطة ، ولكون سرت هى المدينة التى يتواجد بها قبيلة القذاذفه ( أهل معمر القذافى ) وتتمتع بموقع متميز فى منتصف الساحل الليبى بين طرابلس التى تبتعد عنها بمسافة 450 كيلو متر وبين مدينة بنغازى والتى كانت تعتبر العاصمة الثانية بعد طرابلس . ويطلق على مدينة سرت " الرباط الامامى " لقربها من خليج سرت الذى ذاع صيته فى فترة الغارات الامريكية على ليبيا عام 1986 .
ومن الواضح أن هذه المدينة توالت عليها العديد من الجماعات ( الاسلامية )التى بدأت بالعمل الدينى الدعوى فى غفلة الانظمة السياسية ، وتسامحها فى العالم العربى فى ظل متغيرات محلية داخلية وأخرى اقليمية ودولية لتحقق طموحها الغير معلن وتنتزع من الدول السيطرة لتعيد وحدة الدين والدولة معا ولما لا ؟ الفرصة اصبحت سانحة لهم على الارض والدعم المالى كبير ومخازن الاسلحة التى تم الاستيلاء عليها كافية للمجابهة لحين وصول امدادات الداعمين ، لتعلنها صراحة بانه من اليوم فصاعدا وانا بيدى السلاح لن يكون هناك سلام بين الانسان وأخيه الانسان ، فخلل التوازنات الكبرى ولى وشأنة وأنتفاضات عام 1989 وثواراتها فى المنظومة الاشتراكية مازالت على مرمى البصر .
فمنذ أن قرر ( الناتو ) التدخل فى ليبيا ودعم التمرد لينهى حكم العقيد معمر القذافى والذى بالفعل اعلن سقوطه فى 20/10/2011. أى لعب الدور الخارجى أهمية قصوى فى نهاية هذا النظام الذى ترك العاصمة طرابلس ودخل سرت حيث الولاء المطلق والذى لن يجد فيها أى خيانة بين أهله المتمسكين به وبحكمه والمناصرين له الذين استسلم البعض منهم للفرق المتعددة المتحاربة معه لترتكب أكبر مجازر لم تشهدها البشرية منذ عقود مضت ، واستمالة العمالة الموجودة من الدول المتواجدة على الاراضى الليبية باستخدام طريقة الترهيب أو الترغيب والاستفادة منهم فى زيادة حجم القوى المناوئة لحكم القذافى والمتناحرة معه لتزاداد وتيرة الفوضى بين الكر والفر .
وظلت هذه المدينة بين الشد والجذر تتقلب عليها المليشيات والكتائب المسلحة متأثرة بحركة الامواج التى تحملها الكتائب فى المدن الاخرى . وهذا بفضل الدعم العسكرى والمالى الذى لعب الساحل الليبى دورا لايستهان به فى هذه الحرب، وسنورد فى هذا الكتاب فصلا كاملا عن دور الساحل الليبى الذى كان سببا مباشرا فى تأجج الاوضاع فى ليبيا وخروجها عن قدرة النظام على السيطرة .
وهنا علينا أن نبدأ بأحدى المليشيات التى لعبت دورا فى هذه الاحداث ( مليشيات مصراتة ) التى دعمت وساندت قوات تتبنى الارهاب الدينى وسيلة لزيادة الفوضى والسلب والنهب ليتم تقاسمه فيما بينهم فى غياب الدولة . كيف تأسست ؟ ماهو مصدر الدعم المالى لها ومن يقف خلفها ؟ ماهو الدور الذى قامت به فى الاحداث الأخيرة ؟